الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا} قوله تعالى}لا يحل لك النساء من بعد} قوله تعالى}لا يحل لك النساء من بعد} أي من بعد الأصناف التي سميت، قاله أبي بن بن كعب وعكرمة وأبو رزين، وهو اختيار محمد بن جرير. ومن قال إن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا}لا يحل لك السعاة} معناه لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات. وهذا تأويل فيه بعد. وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة أيضا. وهو القول السادس. قال مجاهد: لئلا تكون كافرة أما للمؤمنين. وهذا القول يبعد، لأنه يقدره: من بعد المسلمات، ولم يجر للمسلمات ذكر. وكذلك قدر }ولا أن تبدل بهن} أي ولا أن تطلق مسلمة لتستبدل بها كتابية. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حلال أن يتزوج من شاء ثم نسخ ذلك. قال: وكذلك كانت الأنبياء قبله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن كعب القرظي. }ولا أن تبدل بهن من أزواج} قال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله، يقول أحدهم: خذ زوجتي وأعطني زوجتك، قلت: وما ذكرناه من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة من أن البدل كان في الجاهلية يدل على خلاف ما أنكر من ذلك، والله أعلم. قال المبرد: وقرئ }لا يحل} بالياء والتاء. فمن قرأ بالتاء فعلى معنى جماعة النساء، وبالياء من تحت على معنى جميع النساء. وزعم الفراء قال: اجتمعت القراء على أن القراءة بالياء، وهذا غلط، وكيف يقال: اجتمعت القراء وقد قرأ أبو عمرو بالتاء بلا اختلاف عنه. قوله تعالى}ولو أعجبك حسنهن} قال ابن عباس: نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس، أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب حسنها، فأراد أن يتزوجها، فنزلت الآية، وهذا حديث ضعيف قال ابن العربي. في هذه الآية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها. الأمر بالنظر إلى المخطوبة إنما هو على جهة الإرشاد إلى المصلحة، فإنه إذا نظر إليها فلعله يرى منها ما يرغبه في نكاحها. ومما يدل على أن الأم على جهة الإرشاد ما اختلف فيما يجوز أن ينظر منها، فقال مالك: ينظر إلى وجهها وكفيها، ولا ينظر إلا بإذنها. وقال الشافعي وأحمد: بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة. وقال الأوزاعي: ينظر إليها ويجتهد وينظر مواضع اللحم منها. قال داود: ينظر إلى سائر جسدها، تمسكا بظاهر اللفظ. وأصول الشريعة تردّ عليه في تحريم الاطلاع على العورة. والله أعلم. قوله تعالى}إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا} اختلف العلماء في إحلال الأمة الكافرة للنبي صلى الله عليه وسلم على قولين: تحل لعموم قوله}إلا ما ملكت يمينك}، قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم. قالوا: قوله تعالى }لا يحل لك النساء من بعد} أي لا تحل لك النساء من غير المسلمات، فأما اليهوديات والنصرانيات والمشركات فحرام عليك، أي لا يحل لك أن تتزوج كافرة فتكون أما للمؤمنين ولو أعجبك حسنها، إلا ما ملكت يمينك، فإن له أن يتسرى بها. القول الثاني: لا تحل، تنزيها لقدره عن مباشرة الكافرة، وقد قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما} قوله تعالى}يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} }أن} في موضع نصب على معنى: إلا بأن يؤذن لكم، ويكون الاستثناء. ليس من الأول. }غير ناظرين إناه} نصب على الحال، أي لا تدخلوا في هذه الحال. ولا يجوز في }غير} الخفض على النعت لله للطعام، لأنه لو كان نعتا لم يكن بد من إظهار الفاعلين، وكان يقول: غير ناظرين إناه أنتم. ونظير هذا من النحو: هذا رجل مع رجل ملازم له، وإن شئت قلت: هذا رجل مع رجل ملازم له هو. وهذه الآية تضمنت قصتين: إحداهما: الأدب في أمر الطعام والجلوس. والثانية: أمر الحجاب. وقال حماد بن زيد: هذه الآية نزلت في الثقلاء. فأما القصة الأولى فالجمهور من المفسرين على أن: سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش امرأة زيد أولم عليها، فدعا الناس، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أنس: فما أدري أأنا أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أن القوم قد خرجوا أو أخبرني. قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب. قال: ووعظ القوم بما وعظوا به، وأنزل الله عز وجل }يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلى قوله إن ذلكم كان عند الله عظيما} أخرجه الصحيح. وقال قتادة ومقاتل في كتاب الثعلبي: إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة. والأول الصحيح، كما رواه الصحيح. وقال ابن عباس: نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، فيقعدون إلى أن يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون. وقال إسماعيل بن أبي حكيم: وأدب أدب الله به الثقلاء. وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم. وأما قصة الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة: سببها أمر القعود في بيت زينب، القصة المذكورة آنفا. وقالت عائشة رضي الله عنها وجماعة: سببها أن عمر قال قلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل، عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت الآية. قوله تعالى}بيوت النبي} دليل على أن البيت للرجل، ومحكم له به، فإن الله تعالى أضافه إليه. فإن قيل: فقد قال الله تعالى واختلف العلماء في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يسكن فيها أهله بعد موته، هل هي ملك لهن أم لا على قولين: فقالت طائفة: كانت ملكا لهن، بدليل أنهن سكن فيها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاتهن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب ذلك لهن في حياته. الثاني: أن ذلك كان إسكانا كما يسكن الرجل أهله ولم يكن هبة، وتمادى سكناهن بها إلى الموت. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر وابن العربي وغيرهم، فإن ذلك من مؤونتهن التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناها لهن، كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال: قوله تعالى}غير ناظرين إناه} أي غير منتظرين وقت نضجه. و}إناه} مقصور، وفيه لغات}إنى} بكسر الهمزة. قال الشيباني: تمخضت المنون له بيوم أنى ولكل حاملة تمام وقرأ ابن أبي عبلة}غير ناظرين إناه}. مجرورا صفة لـ }طعام}. الزمخشري: وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق. ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين، إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي. وأنى (بفتحها)، وأناء (بفتح الهمزة والمد) قال الحطيئة: يعني إلى طلوع سهيل. وإناه مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان وأدرك. قوله تعالى}ولكن إذا دعيتم فادخلوا} فأكد المنع، وخص وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب، وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة. قال ابن العربي: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فأدخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول. والفاء في جواب }إذا} لازمة لما فيها من معنى المجازاة. }فإذا طعمتم فانتشروا} أمر تعالى بعد الإطعام بأن يتفرق جميعهم وينتشروا. والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل. والدليل على ذلك أن الدخول حرام، وإنما جاز لأجل الأكل، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح وعاد التحريم إلى أصله. في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف لا على ملك نفسه، لأنه قال}فإذا طعمتم فانتشروا} فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله. قوله تعالى}ولا مستأنسين لحديث} عطف على قوله}غير ناظرين} و}غير} منصوبة على الحال من الكاف والميم في }لكم} أي غير ناظرين ولا مستأنسين، والمعنى، المقصود: لا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب. }إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق} أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره. ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك، في البشر. قوله تعالى}وإذا سألتموهن متاعا} واختلف في المتاع، فقيل: ما يتمتع به من العواري وقال فتوى. وقيل صحف القرآن. والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا. في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب، في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، كما تقدم، فلا يجوز كشف، ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها. استدل بعض العلماء بأخذ الناس عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها. وعلى إجازة شهادته أكثر العلماء، ولم يجزها أبو حنيفة والشافعي وغيرهما. قال أبو حنيفة: تجوز في الأنساب. وقال الشافعي: لا تجوز إلا فيما رأه قبل ذهاب بصره. قوله تعالى}ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، أي ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية. وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن لحال وأحصن لنفسه وأتم لعصمته. }وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} الآية. هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها، وتأكيد العلل أقوى في الأحكام. قوله تعالى}ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} روى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة أن رجلا قال: لو قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة، فأنزل، الله تعالى}وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} الآية. ونزلت قلت: وكذا حكى النحاس عن معمر أنه طلحة، ولا يصح. قال ابن عطية: لله در ابن عباس! وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيدالله. قال شيخنا الإمام أبو العباس: وقد حكى هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة، وحاشاهم عن مثله! والكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال. يروى أن رجلا من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة، وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا! والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه، فنزلت الآية في هذا، فحرم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات. وهذا من خصائصه تمييزا لشرفه وتنبيها على مرتبته صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي رحمه الله: وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحل ذلك كان كافرا، لقوله تعالى}وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا}. وقد قيل: إنما منع من التزوج بزوجاته، لأنهن أزواجه في الجنة، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها. قال حذيفة لامرأته: إن سرك أن تكوني زوجة في الجنة إن جمعنا الله فيها فلا تزوجي من بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها. وقد ذكرنا ما للعلماء في هذا في [1] اختلف العلماء في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، هل بقين أزواجه أم زال النكاح بالموت، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا؟ فقيل: عليهن العدة، لأنه توفي عنهن، والعدة عبادة. وقيل: لا عدة عليهن، لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة. وهو الصحيح، لقوله عليه السلام: قد بينا سبب نزول الحجاب من حديث أنس وقول عمر، وكان يقول لسودة إذا خرجت وكانت امرأة طويلة: قد رأيناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. ولا بعد في نزول الآية عند هذه الأسباب كلها - والله أعلم - بيد أنه لما ماتت زينب بنت جحش قال: لا يشهد جنازتها إلا ذو محرم منها، مراعاة للحجاب الذي نزل بسببها. فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر. وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم. {إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما} البارئ سبحانه وتعالى عالم بما بدا وما خفي وما كان وما لم يكن، لا يخفى عليه ماض تقضى، ولا مستقبل يأتي. وهذا على العموم تمدح به، وهو أهل المدح والحمد. والمراد به ها هنا التوبيخ والوعيد لمن تقدم التعريض به في الآية قبلها، ممن أشير إليه بقوله}ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}، ومن أشير إليه في قوله}وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} فقيل لهم في هذه الآية: إن الله تعالى يعلم ما تخفونه من هذه المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيكم عليها. فصارت هذه الآية منعطفة على ما قبلها مبينة لها. والله أعلم. {لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا} لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية. ذكر الله تعالى في هذه الآية من يحل للمرأة البروز له، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقد يسمى العم أبا، قال الله تعالى قوله تعالى}واتقين الله} لما ذكر الله تعالى الرخصة في هذه الأصناف وانجزمت الإباحة، عطف بأمرهن بالتقوى عطف جملة. وهذا في غاية البلاغة والإيجاز، كأنه قال: اقتصرن على هذا واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره. وخص النساء بالذكر وعنهن في هذا الأمر، لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن. والله أعلم. ثن توعد تعالى بقوله}إن الله كان على كل شيء شهيدا}. {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} هذه الآية شرف الله بها رسوله عليه السلام حياته وموته، وذكر منزلته منه، وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء، أو في أمر زوجاته ونحو ذلك. والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن لأمة الدعاء والتعظيم لأمره واختلف العلماء في الضمير في قوله}يصلون} فقالت فرقة: الضمير فيه لله والملائكة، وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته، فلا يصحبه قوله تعالى}يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه} أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون أنبيائه تشريفا له، ولا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة، وفي كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه. الزمخشري: فإن قلت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة. وقد اختلفوا في حال وجوبها، فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره. وفي الحديث: واختلفت الآثار في صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ف واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فالذي عليه الجم الغفير والجمهور الكثير: أن ذلك من سنن الصلاة ومستحباتها. قال ابن المنذر: يستحب ألا يصلي أحد صلاة إلا صلى الله عليه وسلم فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزية في مذاهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم. وهو قول جل أهل العلم. وحكي عن مالك وسفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة، وأن تاركها في التشهد مسيء وشذ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة وأوجب إسحاق الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان. وقال أبو عمر: قال الشافعي إذا لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة. قال: وإن صلى الله عليه وسلم عليه قبل ذلك لم تجزه. وهذا قول حكاه عنه حرملة بن يحيى، لا يكاد يوجد هكذا عن الشافعي إلا من وراية حرملة عنه، وهو من كبار أصحابه الذين كتبوا كتبه. وقد تقلده أصحاب الشافعي ومالوا إليه وناظروا عليه، وهو عندهم تحصيل مذهبه. وزعم الطحاوي أنه لم يقل به أحد من أهل العلم غيره. وقال الخطابي وهو من أصحاب الشافعي: وليست بواجبة في، الصلاة، وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، ولا أعلم له فيها قدوة. والدليل على أنها ليست من فروض، الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعي وإجماعهم عليه، وقد شنع عليه في هذه المسألة جدا. وهذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كل من روي التشهد عنه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عمر: فإن أبو بكر يعلمنا الشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب. وعلمه أيضا على المنبر عمر، وليس فيه ذكر الصلاة على، النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: قد قال بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة محمد. بن المواز من أصحابنا فيما ذكر ابن القصار وعبدالوهاب، واختاره ابن العربي للحديث الصحيح: إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فعلم الصلاة ووقتها فتعينت كيفية ووقتا. وذكر الدارقطني عن أبي جعفر محمد ابن علي بن الحسين أنه قال: لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم. وروي مرفوعا عنه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب أنه قول أبي جعفر، قال الدارقطني. قوله تعالى}وسلموا تسليما} قال القاضي أبو بكر بن بكير: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله أصحابه أن يسلموا عليه. وكذلك من بعدهم امروا أن يسلموا عليه عند حضورهم قبره وعند ذكره. {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا} اختلف العلماء في أذية الله بماذا تكون؟ فقال الجمهور من العلماء: معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود لعنهم الله: وقالت اليهود يد الله مغلولة. والنصارى: المسيح ابن الله. والمشركون: الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه. قلت: وهذا مما يقوي قول مجاهد في المنع من تصوير الشجر وغيرها؛ إذ كل ذلك صفة اختراع وتشبه بفعل الله الذي انفرد به سبحانه وتعالى. وقد تقدم هذا في سورة }النمل} والحمد لله. وقالت فرقة: ذلك على حذف مضاف، تقديره: يؤذون أولياء الله. وأما أذية رسوله صلى الله عليه وسلم فهي كل ما يؤذيه من الأقوال في غير معنى واحد، ومن الأفعال أيضا. أما قولهم}فساحر شاعر. كاهن مجنون. وأما فعلهم: فكسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد، وبمكة إلقاء السلى على ظهره وهو ساجد} إلى غير ذلك. وقال ابن عباس: نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت أبي حيي. وأطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات، لأن إيذاء الله ورسول لا يكون إلا بغير حق أبدا. وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات فمنه .. ومنه.. قال علماؤنا: والطعن في تأمير أسامة بن زيد أذية له عليه السلام. و في هذا الحديث أوضح دليل على جواز إمامة المولى والمفضول على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم مولى أبي حذيفة على الصلاة بقباء، فكان يؤمهم وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش. و كان أسامة رضي الله عنه الحب ابن الحب وبذلك كان يدعي، وكان أسود شديد السواد، وكأن زيد أبوه أبيض من القطن. هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. وقال غير أحمد: كان زيد أزهر اللون وكان أسامة شديد الأدمة. كان عمر رضي الله عنه يفرض لأسامة في العطاء خمسة آلاف، ولابنه عبدالله ألفين؛ فقال له عبدالله: فضلت علي أسامة وقد شهدت ما لم يشهد! فقال: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، أبيك، ففضل رضي الله عنه من محبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبوبه. وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغض من أبغض. وقد قابل مروان هذا الحب بنقيضه؛ وذلك أنه مر بأسامة بن زيد وهو يصلي عند باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مروان: إنما أردت أن نرى مكانك، فقد رأينا مكانك، فعل الله بك! وقال قولا قبيحا. فقال له أسامة: إنك أذيتني، وإنك فاحش متفحش، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قوله تعالى}لعنهم الله} معناه أبعدوا من كل خير. واللعن في اللغة: الإبعاد، ومنه اللعان. }وأعد لهم عذابا مهينا} تقدم معناه في غير موضع. والحمد لله رب العالمين. {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} أذية المؤمنين والمؤمنات هي أيضا بالأفعال والأقوال القبيحة، كالبهتان والتكذيب الفاحش المختلق. وهذه الآية نظير الآية التي في النساء {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما} قوله تعالى}قل لأزواجك وبناتك} قد مضى الكلام في تفضيل أزواجه واحدة واحدة. قال قتادة: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسع. خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة. وثلاث من سائر العرب: ميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية. وواحدة من بني هارون: صفية. وأما أولاده فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد ذكور وإناث. فالذكور من أولاده: القاسم، أمه خديجة، وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم، وهو أول من مات من أولاده، وعاش سنتين. وقال عروة: ولدت خديجة للنبي صلى الله ليه وسلم القاصم والطاهر وعبدالله والطيب. وقال أبو بكر البرقي: ويقال إن الطاهر هو الطيب وهو عبدالله. وإبراهيم أمه مارية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي ابن ستة عشر شهرا، وقيل ثمانية عشر؛ ذكره الدارقطني. ودفن بالبقيع. وقال صلى الله عليه وسلم: وأما الإناث من أولاده فمنهن: فاطمة الزهراء بنت خديجة، ولدتها وقريش تبني النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بخمس سنين، وهي أصغر بناته، وتزوجها علي رضي الله عنهما في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وبنى بها في ذي الحجة. وقيل: تزوجها في رجب، وتوفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، وهي أول من لحقه من أهل بيته. رضى الله عنها.. ومنهن: زينب - أمها خديجة - تزوجها ابن خالتها أبو العاصي بن الربيع، وكانت أم العاصي هالة بنت خويلد أخت خديجة. واسم أبي العاصي لقيط. وقيل هاشم. وقيل هشيم وقيل مقسم. وكانت أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وتوفيت - ثمان من الهجرة، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها. ومنهن: رقة - أمها خديجة - تزوجها عتبة بن أبي لهب قبل النبوة، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اله عليه وسلم وأنزل عليه وهاجرت معه إلى أرض الحبشة الهجرتين، وكانت قد أسقطت من عثمان سقطا، ثم ولدت بعد ذلك عبدالله، وكان عثمان يكنى به في الإسلام، وبلغ ست سنين فنقره ديك في وجهه فمات، ولم تلد له شيئا بعد ذلك. وهاجرت إلى المدينة ومرضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر فخلف عثمان عليها، فتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة. وقدم زيد بن حارثة بشيرا من بدر، فدخل المدينة حين سوي التراب على بقية. ولم يشهد دفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. ومنهن: أم كلثوم - أمها خديجة - تزوجها عتيبة بن أبي لهب - أخو عتبة - قبل النبوة، وأمره أبوه أن يفارقها للسبب المذكور في أمر رقية، ولم يكن دخل بها، حتى نزل بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وأسلمت حين أسلمت أمها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء، وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم. فلما توفيت رقية تزوجها عثمان، وبذلك سمي ذا النورين. وتوقيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة. وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرها، ونزل في حفرتها علي والفضل وأسامة. وذكر الزبير بن بكار أن أكبر ولد النبي صلى الله عليه وسلم: القاسم، ثم زينب، ثم عبدالله، وكان يقال له الطيب والطاهر، وولد بعد النبوة ومات صغيرا ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. فمات القاسم بمكة ثم مات عبدالله. لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف - فيقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عزبا أو شابا. وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار. يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية بسبب ذلك. قال معناه الحسن وغيره. قوله تعالى}من جلابيبهن} الجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار. وروى عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء. وقد قيل: إنه القناع. والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن. واختلف الناس في صورة إرخائه؛ فقال ابن عباس وزبيدة السلماني: ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها. وقال ابن عباس أيضا وقتادة: ذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها. أمر الله سبحانه جميع النساء بالستر، أو ذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها، إلا إذا كانت مع زوجها فلها أن تلبس ما شاءت؛ لأن له أن يستمتع بها كيف شاء. قوله تعالى}ذلك أدنى أن يعرفن} أي الحراس، حتى لا يختلط بالإماء؛ فإذا عرفن لم يقابلن بأدنى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية، فتنقطع الأطماع عنهن. وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى تعلم من هي. وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة قد تقنعت ضربها بالدرة، محافظة على زي الحرائر. وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء. وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} قوله تعالى}لئن لم ينته المنافقون} الآية. أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد؛ كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال}المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة} قال: هم شيء واحد، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء. والواو مقحمة، كما قال: أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة، وقد مضى في }البقرة}. وقيل: كان منهم قوم يرجفون، وقوم يتبعون النساء للريبة وقوم يشككون المسلمين. قال عكرمة وشهر بن حوشب}الذين في قلوبهم مرض} يعني الذين هي قلوبهم الزنى. وقال طاوس: نزلت هذه الآية في أمر النساء. وقال سلمة بن كهيل: نزلت في أصحاب الفواحش، والمعنى متقارب. وقيل: المنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد، عبر عنهم بلفظين؛ دليله آية المنافقين في أول سورة }البقرة}. والمرجفون في المدينة قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوءهم من عدوهم، فيقولون إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: إنهم قد قتلوا أو هزموا، وإن العدو قد أتاكم، قال قتادة وغيره. وقيل كانوا يقولون: أصحاب الصفة قوم عزاب، فهم الذين يتعرضون للنساء. وقيل: هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حبا للفتنة. وقد كان في أصحاب الإفك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حبا للفتنة. وقال ابن عباس: الإرجاف التماس الفتنة، والإرجاف: إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به. وقيل: تحريك القلوب، يقال: رجفت الأرض - أي تحركت وتزلزلت - ترجف رجفا. والرجفان: الاضطراب الشديد. والرجاف: البحر، سمي به لاضطرابه. قال الشاعر: والإرجاف: واحد أراجيف الأخبار. وقد أرجفوا في الشيء، أي خاضوا فيه. قال الشاعر: وقال آخر: أبس الأراجيف يا ابن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور فالإرجاف حرام، لأن فيه إذاية. فدلت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف. قوله تعالى}لنغرينك بهم} أي لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل. وقال ابن عباس: لم ينتهوا عن إيذاء النساء وأن الله عز وجل قد أغراه بهم. ثم إنه قال عز وجل قوله تعالى}ملعونين} هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد، وهو منصوب على الحال. وقال ابن الأنباري}قليلا ملعونين} وقف حسن. النحاس: ويجوز أن يكون التمام }إلا قليلا} وتنصب }ملعونين} على الشتم. كما قرأ عيسى بن عمر}وامرأته حمالة الحطب}. وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال: يكون المعنى أينما ثقفوا أخذوا ملعونين. وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله وقيل: معنى الآية إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدنية إلا وهم مطرودون ملعونون. وقد فعل بهم هذا، فإنه لما نزلت سورة }التوبة} جمعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا فلان قم فاخرج فإنك منافق ويا فلان قم) فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد. }سنة الله} نصب على المصدر؛ أي سن الله جل وعز فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل. }ولن تجد لسنة الله تبديلا} أي تحويلا وتغييرا، حكاه النقاش. وقال السدي: يعني أن من قتل بحق فلا دية على قاتله. المهدوي: وفي الآية دليل على جواز ترك إنفاذ الوعيد، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه حتى مات. والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم وتأخير وعيدهم، وقد مضى هذا في }آل عمران} وغيرها. {يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا} قوله تعالى}يسألك الناس عن الساعة} هؤلاء المؤذون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة، استبعادا وتكذيبا، موهمين أنها لا تكون. }قل إنما علمها عند الله} أي أجبهم عن سؤالهم وقل علمها عند الله، وليس إخفاء الله وقتها عني ما يبطل نبوتي، وليس من شرط النبي أن يعلم الغيب بغير تعليم من الله جل وعز. }وما يدريك} أي ما يعلمك. }لعل الساعة تكون قريبا} أي في زمان قريب. وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين) وأشار إلى السبابة والوسطى، خرجه أهل الصحيح. وقيل: أي ليست الساعة تكون قريبا، فحذف هاء التأنيث ذهابا بالساعة إلى اليوم؛ كقوله {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا، خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا} قوله تعالى}إن الله لعن الكافرين} أي طردهم وأبعدهم. واللعن: الطرد والإبعاد عن الرحمة. وقد مضى في }البقرة} بيانه. }وأعد لهم سعيرا} أنث السعير لأنها بمعنى النار. }لا يجدون وليا ولا نصيرا} خالدين في السعير لا يجدون من ينجيهم من عذاب الله والخلود فيه. {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} قوله تعالى}يوم تقلب وجوههم في النار} قراءة العامة بضم التاء وفتح اللام، على الفعل المجهول. وقرأ عيسى الهمداني وابن إسحاق}نقلب} بنون وكسر - اللام. }وجوههم} نصبا. وقرأ عيسى أيضا}تقلب} بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم. وهذا التقليب تغيير ألوانهم بلفح النار، فتسود مرة وتخضر أخرى. وإذا بدلت جلودهم بجلود أخر فحينئذ يتمنون أنهم ما كفروا }يقولون ياليتنا} ويجوز أن يكون المعنى: يقولون يوم تقلب وجوههم في النار يا ليتنا. }أطعنا الله وأطعنا الرسولا} أي لم نكفر فننجو من هذا العذاب كما نجا المؤمنون. وهذه الألف تقع في الفواصل فيوقف عليها ولا يوصل بها. وكذا }السبيلا} وقد مضى في أول السورة. وقرأ الحسن}ساداتنا} بكسر التاء، جمع سادة. وكان في هذا زجر عن التقليد. والسادة جمع السيد، وهو فعلة، مثل كتبة وفجرة. وساداتنا جمع الجمع. والسادة والكبراء بمعنى. وقال قتادة: هم المطعمون في غزوة بدر. والأظهر العموم في القادة والرؤساء في الشرك والضلالة، أي أطعناهم في معصيتك وما دعونا إليه }فأضلونا السبيل} أي عن السبيل وهو التوحيد، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب. والإضلال لا يتعدى إلى مفعولين من غير توسط حرف الجر، قوله: كقوله {ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} قوله تعالى}ربنا آتهم ضعفين من العذاب} قال قتادة: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. وقيل: عذاب الكفر وعذاب الإضلال؛ أي عذبهم مثلي ما تعذبنا فإنهم ضلوا وأضلوا. }والعنهم لعنا كبيرا} قرأ ابن مسعود وأصحابه ويحيى وعاصم بالباء. الباقون بالثاء، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس، لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها} لما ذكر الله تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، حذر المؤمنين من التعرض للإيذاء، ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في أذيتهم نبيهم موسى. واختلف الناس فيما أوذي به محمد صلى الله عليه وسلم وموسى، فحكى النقاش أن أذيتهم محمدا عليه السلام قولهم: زيد بن محمد. في وضع موسى عليه السلام ثوبه على الحجر ودخول في الماء عريانا دليل على جواز ذلك، وهو مذهب الجمهور. ومنعه ابن أبي ليلى واحتج بحديث لم يصح؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: قلت: أما إنه يستحب التستر لما رواه إسرائيل عن عبدالأعلى أن الحسن بن علي دخل غديرا وعليه برد له متوشحا به، فلما خرج قيل له، قال: إنما تسترت ممن يراني ولا أراه؛ يعني من ربي والملائكة. فإن قيل: كيف نادى موسى عليه السلام الحجر نداء من يعقل؟ قيل: لأنه صدر عن الحجر فعل من يعقل. و}حجر} منادى مفرد محذوف حرف النداء، كما قال تعالى قوله تعالى}وكان عند الله وجيها} أي عظيما. والوجيه عند العرب: العظيم القدر الرفيع المنزلة. وي روى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه. وقرأ ابن مسعود}وكان عبدا لله}. وقيل: معنى }وجيها} أي كلمه تكليما. قال أبو بكر الأنباري في [3] {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} قوله تعالى}يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا} أي قصدا وحقا. وقال ابن عباس: أي صوابا. وقال قتادة ومقاتل: يعني قولوا قولا سديدا في شأن زينب وزيد، ولا تنسبوا النبي إلى ما لا يحل. وقال عكرمة وابن عباس أيضا: القول السداد لا إله إلا الله. وقيل: هو الذي يوافق ظاهره باطنه. وقيل: هو ما أريد به وجه الله دون غيره. وقيل: هو الإصلاح بين المتشاجرين. وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض. والقول السداد يعم الخيرات، فهو عام في جميع ما ذكر وغير ذلك. وظاهر الآية يعطي أنه إنما أشار إلى ما يكون خلافا للأذى الذي قيل في جهة الرسول وجهة المؤمنين. ثم وعد جل وعز بأنه يجازي على القول السداد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب؛ وحسبك بذلك درجة ورفعة منزلة. }ومن يطع الله ورسوله} أي فيما أمر به ونهى عنه }فقد فاز فوزا عظيما}. {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما} لما بين تعالى في هذه السورة من الأحكام ما بين، أمر بالتزام أوامره. والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور. قوله تعالى}وحملها الإنسان} قال الحسن: المراد الكافر والمنافق. }إنه كان ظلوما} لنفسه }جهولا} بربه. فيكون على هذا الجواب مجازا، مثل وهذا كما تقول: عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد قايست، قوته بثقل الحمل، فرأيت أنها تقصر عنه. وقيل}عرضنا} بمعنى عارضنا الإمامة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة، ورجحت الأمانة بثقلها عليها. وقيل: إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال، إنما كان من آدم عليه السلام. وذلك أن الله تعالى لما استخلفه على ذريته، وسلطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والطير والوحش، وعهد إليه عهدا أمره فيه ونهاه وحرم وأحل، فقبله ولم يزل عاملا به. فلما أن حضرته الوفاة سأل الله أن يعلمه من يستخلف بعده، ويقلده من الأمانة ما تقلده، فأمره أن يعرض ذلك على السموات بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى، فأبين أن يقبلنه شفقا من عذاب الله. ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرض والجبال كلها فأبياه. ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فعرضه عليه فقبله بالشرط، ولم يهب منه ما تهيبت السموات والأرض والجبال. }إنه كان ظلوما} لنفسه }جهولا} بعاقبة ما تقلد لربه. قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي: عجبت من هذا القائل من أين أتى بهذه القصة! فإن نظرنا إلى الآثار وجدناها بخلاف، ما قال، وإن نظرنا إلى ظاهره وجدناه بخلاف ما قال، وإن نظرنا إلى، باطنه وجدناه بعيدا مما قال! وذلك أنه ردد ذكر الأمانة ولم يذكر ما الأمانة، إلا أنه يومئ في مقالته. إلى أنه سلطه على جميع ما في، الأرض، وعهد الله إليه عهدا فيه أمره ونهيه وحله وحرامه، وزعم أنه أمره أن يعرض ذلك على، السموات والأرض والجبال؛ فما تصنع السموات والأرض والجبال بالحلال والحرام؟ وما التسليط على الأنعام والطير والوحش! وكيف إذا عرضه على ولده فقبله في أعناق ذريته من بعده. وفي مبتدأ الخبر في التنزيل أنه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال - حتى ظهر الإباء منهم، ثم ذكر أن الإنسان حصلها، أي من قبل نفسه لا أنه حمل ذلك، فسماه }ظلوما} أي لنفسه، }جهولا} بما فيها. وأما الآثار التي هي بخلاف ما ذكر، فحدثني أبي رحمه الله قال حدثنا الفيض بن الفضل الكوفي حدثنا السري بن إسماعيل عن عامر الشعبي عن مسروق عن عبدالله بن مسعود قال: لما خلق الله الأمانة مثلها صخرة، ثم وضعها حيث شاء ثم دعا لها السموات والأرض والجبال ليحملنها، وقال لهن: إن هذه }الأمانة}، ولها ثواب وعليها عقاب؛ قالوا: يا رب، لا طاقة لنا بها؛ وأقبل الإنسان من قبل أن يدعي فقال للسموات والأرض والجبال: ما وقوفكم؟ قالوا: دعانا ربنا أن نحمل هذه فأشفقنا منها ولم نطقها؛ قال: فحركها بيده وقال: والله لو شئت أن أحملها لحملتها؛ فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازددت؛ قالوا: دونك! فحملها حتى بلغ بها حقويه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازددت؛ قالوا: دونك، فحملها حتى وضعها على عاتقه، فلما أهوى ليضعها، قالوا: مكانك! إن هذه }الأمانة} ولها ثواب وعليها عقاب وأمرنا ربنا أن نحملها فأشفقنا منها، وحملتها أنت من غير أن تدعي لها، فهي في عنقك وفي أعناق ذريتك إلى يوم القيامة، إنك كنت ظلوما جهولا. وذكر أخبارا عن الصحابة والتابعين تقدم أكثرها. }وحملها الإنسان} أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه. وقال قتادة: للأمانة، جهول بقدر ما دخل فيه. وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير. وقال الحسن: جهول بربه. قال: ومعنى }حملها} خان فيها. وقال الزجاج والآية في الكافر والمنافق والعصاة على قدرهم على هذا التأويل. وقال ابن عباس وأصحابه والضحاك وغيره}الإنسان} آدم، تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة. وعن ابن عباس أن الله تعالى قال له: أتحمل هذه الأمانة بما فيها. قال وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت. قال: أنا أحملها بما فيها بين أذني وعاتقي. فقال الله تعالى له: إني سأعينك، قد جعلت لبصرك حجابا فأغلقه عما لا يحل لك، ولفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك. وقال قوم}الإنسان} النوع كله. وهذا حسن مع عموم الأمانة كما ذكرناه أولا. وقال السدي: الإنسان قابيل. فالله أعلم. قوله تعالى}ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} اللام في }ليعذب} متعلقة بـ }حمل} أي حملها ليعذب العاصي ويثبت المطيع؛ فهي لام التعليل؛ لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة. وقيل بـ }عرضنا}؛ أي عرضنا الأمانة على الجميع ثم قلدناها الإنسان ليظهر شرك المشرك ونفاق المنافقين ليعذبهم: الله، وإيمان المؤمن ليثيبه الله. }ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} قراءة الحسن بالرفع، يقطعه من الأول؛ أي يتوب الله عليهم بكل حال. }وكان الله غفورا رحيما} خبر بعد خبر} لكان}. ويجوز أن يكون نعتا لغفور، ويجوز أن يكون حالا من المضمر. والله أعلم بالصواب
|